الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **
في هذه السنة في المحرم قتل الأفضل أبو علي بن الأفضل بن بدر الجمالي وزير الحافظ لدين الله العلوي صاحب مصر. وسبب قتله: أنه كان قد حجر على الحافظ ومنعه أن يحكم في شيء من الأمور قليل أو جليل وأخذ ما في قصر الخلافة إلى داره وأسقط من الدعاء
وهو ابن جعفر بن محمد الصادق وأسقط من الأذان حي على خير العمل ولم يخطب للحافظ وأمر الخطباء أن يخطبوا له بألقاب كتبها لهم وهي: السيد الأفضل الأجل سيد مماليك أرباب الدول والمحامي عن حوزة الدين وناشر جناح العدل على المسلمين الأقربين والأبعدين ناصر إمام الحق في حالتي غيبته وحضوره والقائم بنصرته بماضي سيفه وصائب رأيه وتدبيره أمين الله على عباده وهادي القضاة إلى اتباع شرع الحق واعتماده ومرشد دعاة المؤمنين بواضح بيانه وإرشاده مولى النعم ورافع الجور عن الأمم ومالك فضيلتي السيف والقلم أبو علي أحمد بن السيد الأجل الأفضل شاهنشاه أمير الجيوش. وكان إمامي المذهب يكثر ذم الآمر والتناقص به فنفرت منه شيعة العلويين ومماليكهم وكرهوه وعزموا على قتله فخرج في العشرين من المحرم من هذه السنة إلى الميدان يلعب بالكرة مع أصحابه فكمن له جماعة منهم مملوك فرنجي كان للحافظ فخرجوا عليه فحمل الفرنجي عليه فطعنه فقتله وحزوا رأسه وخرج الحافظ من الخزانة التي كان فيها ونهب الناس دار أبي علي وأخذ منها ما لا يحصى وركب الناس والحافظ إلى داره فأخذ ما بقي فيها وحمله إلى القصر. وبويع يومئذ الحافظ بالخلافة وكان قد بويع له بولاية العهد وأن يكون كافلًا لحمل إن كان للآمر فلما بويع بالخلافة استوزر أبا الفتح يانس الحافظي في ذلك اليوم بعينه ولقب أمير الجيوش وكان عظيم الهيبة بعيد الغور كثير الشر فخافه الحافظ على نفسه وتخيل منه أنس فاحتاط ولم يأكل عنده شيئًا ولا شرب فاحتال عليه الحافظ بأن وضع له فراشه في بيت الطهارة ماء مسمومًا فاغتسل به فوقع الدود في سفله وقيل له: متى قمت من مكانك هلكت فكان يعالج بأن يجعل اللحم الطري في المحل فيعلق به الدود فيخرج ويجعل عوضه فقارب الشفاء فقيل للحافظ: إنه قد صلح وإن تحرك هلك فركب إليه الحافظ كأنه يعوده فقام له ومشى إلى بين يديه وقعد الحافظ عنده ثم خرج من عنده فتوفي من ليلته وكان موته في السادس والعشرين ولما مات يانس استوزر الحافظ ابنه حسنًا وخطبه له بولاية العهد وسيرد ذكر قتله سنة تسع وعشرين. وإنما ذكرت ألقاب أبي علي تعجبًا منها ومن حماقة ذلك الرجل فإن وزير صاحب مصر وحدها إذا كان هكذا فينبغي أن يكون وزير السلاطين السلجوقية كنظام الملك وغيره يدعون الربوبية على أن تربة مصر هكذا تولد ألا ترى إلى فرعون يقول: " أنا ربكم الأعلى " وإلى أشياء أخر لا نطيل ذكرها.
واستقرار السلطنة بالعراق لمسعود لما توفي السلطان محمود ابن السلطان محمد وخطب ببلاد الجبل وأذربيجان لولده الملك داود على ما ذكرناه سار الملك داود من همذان في ذي القعدة من سنة خمس وعشرين إلى زنجان فأتاه الخبر أن عمه السلطان مسعودًا قد سار من جرجان ووصل إلى تبريز واستولى عليها فسار الملك داود إليه وحصره بها وجرى بينهما قتال إلى سلخ المحرم سنة ست وعشرين ثم اصطلحا. وتأخر الملك داود مرحلة وخرج السلطان مسعود من تبريز واجتمع عليه العساكر وسار إلى همذان وأرسل يطلب الخطبة ببغداد وكانت رسل الملك داود قد تقدمت في طلب الخطبة فأجاب المسترشد بالله أن الحكم في الخطبة إلى السلطان سنجر من أراد خطب له وأرسل إلى السلطان سنجر أن لا يأذن لأحد في الخطبة فإن الخطبة ينبغي أن تكون له وحده فوقع ذلك منه موقعًا حسنًا. ثم إن السلطان مسعودًا كاتب عماد الدين زنكي صاحب الموصل وغيرها يستنجده ويطلب مساعدته فوعده النصر فقويت بذلك نفس مسعود على طلب السلطنة. ثم إن الملك سلجوقشاه ابن السلطان محمد سار أتابكه قراجة الساقي صابح فارس وخوزستان في عسكر كثير إلى بغداد فوصل إليها قبل وصول السلطان مسعود ونزل في دار السلطان وأكرمه الخليفة واستحلفه لنفسه. ثم وصل رسول السلطان مسعود يطلب الخطبة ويتهدد إن منعها فلم يجب إلى ما طلبه فسار حتى نزل عباسية الخالص وبرز عسكر الخليفة وعسكر سلجوقشاه وقراجة الساقي نحو مسعود إلى أن يفرغ من حرب أتابك عماد الدين زنكي وسار يومًا وليلة إلى المعشوق وواقع عماد الدين زنكي فهزمه وأسر كثيرًا من أصحابه وسار زنكي منهزمًا إلى تكريت فعبر فيها دجلة وكان الدزدار بها حينئذ نجم الدين أيوب فأقام له المعابر فلما عبر أمن الطلب وسار إلى بلاده لإصلاح حاله وحال رجاله وهذا الفعل من نجم الدين أيوب كان سببًا لاتصاله به والمصير في جملته حتى آل بهم الأمر إلى ملك مصر والشام وغيرهما على ما نذكره. وأما السلطان مسعود فإنه سار من العباسية إلى الملكية ووقعت الطلائع بعضها على بعض ثم لم تزل المناوشة تجري بينه وبين أخيه سلجوقشاه يومين. وأرسل سلجوقشاه إلى قراجة يستحثه على المبادرة فعاد سريعًا وعبر دجلة إلى الجانب الشرقي فلما علم السلطان مسعود بانهزام عماد الدين زنكي رجع إلى ورائه وأرسل إلى الخليفة يعرفه وصول السلطان سنجر إلى الري وأنه عازم على قصد الخليفة وغيره وإن رأيتم أن نتفق على قتاله ودفعه عن العراق ويكون العراق لوكيل الخليفة فأنا موافق على ذلك. فأعاد الخليفة الجواب يستوقفه. وترددت الرسل في الصلح فاصطلحوا على أن يكون العراق لوكيل الخليفة وتكون السلطنة لمسعود ويكون سلجوقشاه ولي عهده وتحالفوا على ذلك وعاد السلطان مسعود إلى بغداد فنزل بدار السلطان ونزل سلجوقشاه في دار الشحنكية وكان اجتماعهم في جمادى الأولى. لما توفي السلطان محمود سار السلطان سنجر إلى بلاد الجبال ومعه الملك طغرل ابن السلطان محمد وكان عنده قد لازمه فوصل إلى الري ثم سار منها إلى همذان فوصل الخبر إلى الخليفة المسترشد بالله والسلطان مسعود بوصوله إلى همذان فاستقرت القاعدة بينهما على قتاله وأن يكون الخليفة معهم وتجهز الخليفة فتقدم قراجة الساقي والسلطان مسعود وسلجوقشاه نحو السلطان سنجر وتأخر المسترشد بالله عن المسير معهم فأرسل إلى قراجة وألزمه وقال: إن الذي تخاف من سنجر آجلًا أنا أفعله عاجلًا. فبرز حينئذ وسار على تريث وتوقف إلى أن بلغ إلى خانقين وأقام بها. وقطعت خطبة سنجر من العراق جميعه ووصلت الأخبار بوصول عماد الدين زنكي ودبيس بن صدقة إلى قريب بغداد فأما دبيس فإنه ذكر أن السلطان سنجر أقطعه الحلة وأرسل إلى المسترشد بالله يضرع ويسأل الرضا عنه فامتنع من إجابته إلى ذلك. وأما عماد الدين زنكي فإنه ذكر أن السلطان سنجر قد أعطاه شحنكية بغداد فعاد المسترشد بالله إلى بغداد وأمر أهلها بالاستعداد للمدافعة عنها وجند أجنادًا جعلهم معهم. ثم إن السلطان مسعودًا وصل إلى دادمرج فلقيهم طلائع السلطان سنجر في خلق كثير فتأخر السلطان مسعود إلى كرمانشاهان ونزل السلطان سنجر في أسداباذ في مائة ألف فارس فسار مسعود وأخوه سلجوقشاه إلى جبلين يقال لهما: كاو وماهي فنزلا بينهما ونزل السلطان سنجر وكنكور فلما سمع بانحرافهم أسرع في طلبهم فرجعوا إلى ورائهم مسيرة أربعة أيام في يوم وليلة فالتقى العسكران بعولان عند الدينور وكان مسعود يدافع الحرب انتظارًا لقدوم المسترشد فلما نازله السلطان سنجر لم يجدا من المصاف وجعل سنجر على ميمنته طغرل ابن أخيه محمد وقماج وأمير أميران وعلى ميسرته خوارزمشاه أتسز بن محمد مع جمع من الأمراء وجعل مسعود على ميمنته قراجة الساقي والأمير قزل وعلى ميسرته يرنقش بازدار ويوسف جاووش وغيرهما وكان قزل قد واطأ سنجر على الانهزام. ووقعت الحرب وقامت على ساق وكان يومًا مشهودًا فحمل قراجة الساقي على القلب وفيه السلطان سنجر في عشرة آلاف فارس من شجعان العسكر وبين يديه الفيلة فلما حمل قراجة على القلب رجع الملك طغرل وخوارزمشاه إلى وراء ظهره فصار قراجة في الوسط فقاتل إلى أن جرح عدة جراحات وقتل كثير من أصحابه وأخذ هو أسيرًا وبه جراحات كثيرة فلما رأى السلطان مسعود ذلك انهزم وسلم من المعركة وقتل يوسف جاووش وحسنين أزبك وهما من أكابر الأمراء وكانت الوقعة ثامن رجب من هذه السنة. فلما تمت الهزيمة على مسعود نزل سنجر وأحضر قراجة فلما حضر قراجة سبه وقال له: يا مفسد أي شيء كنت ترجو بقتالي قال: كنت أرجو أن أقتلك وأقيم سلطانًا أحكم عليه. فقتله صبرًا وأرسل إلى السلطان مسعود يستدعيه فحضر عنده وكان قد بلغ خونج فلما رآه قبله وأكرمه وعاتبه على العصيان عليه ومخالفته وأعاده إلى كنجة وأجلس الملك طغرل ابن أخيه محمد في السلطنة وخطب له في جميع البلاد وجعل في وزارته أبا القاسم الأنساباذي وزير السلطان محمود وعاد إلى خراسان فوصل إلى نيسابور في العشرين من رمضان سنة ست وعشرين. وأما المسترشد بالله فكان منه ما نذكره.
لما سار المسترشد بالله من بغداد وبلغه انهزام السلطان مسعود عزم على العود إلى بغداد فأتاه الخبر بوصول عماد الدين زنكي إلى بغداد ومعه دبيس بن صدقة وكان السلطان سنجر قد كاتبهما وأمرهما بقصد العراق والاستيلاء عليه فلما علم الخليفة بذلك أسرع العود إليها وعبر إلى الجانب الغربي وسار فنزل بالعباسية ونزل عماد الدين بالمنارية من دجيل والتقيا بحصن البرامكة في السابع والعشرين من رجب فابتدأ زنكي فحمل على ميمنة الخليفة وبها جمال الدولة إقبال فانهزموا منه وحمل نظر الخادم من ميسرة الخليفة على ميمنة عماد الدين ودبيس وحمل الخليفة بنفسه واشتد القتال فانهزم دبيس وأراد عماد الدين الصبر فرأى الناس قد تفرقوا عنه فانهزم أيضًا وقتل من العسكر جماعة وأسر جماعة وبات الخليفة هناك ليلته وعاد من الغد إلى بغداد.
وفيها عاد دبيس بعد انهزامه المذكور يلوذ ببلاد الحلة وتلك النواحي وجمع جمعًا وكانت تلك الولاية بيد إقبال المسترشدي فأمد بعسكر من بغداد فالتقى هو ودبيس فانهزم دبيس واختفى في أجمة هناك وبقي ثلاثة أيام لم يطعم شيئًا ولم يقدر على التخلص منها حتى أخرجه حمّاس على ظهره. ثم جمع جمعًا وقصد واسط وانضم إليه عسكرها وبختيار وشاق وابن أبي الجبر ولم يزل فيها إلى أن دخلت سنة سبع وعشرين فنفذ إليهم يرنقش بازدار وأقبال الخادم المسترشدي في عسكر فاقتتلوا في الماء والبر فانهزم الواسطيون ودبيس وأسر بختيار وشاق وغيره من الأمراء. في هذه السنة في رجب توفي تاج الملوك بوري بن طغتكين صاحب دمشق. وسبب موته أن الجرح الذي كان به من الباطنية وقد ذكرناه اشتد عليه الآن وأضعفه وأسقط قوته فتوفي في الحادي والعشرين من رجب ووصى بالملك بعده لولده شمس الملوك إسماعيل ووصى بمدينة بعلبك وأعمالها لولده شمس الدولة محمد. وكان بوري كثير الجهاد شجاعًا مقدمًا سد مسد أبيه وفاق عليه وكان ممدحًا أكثر الشعراء مدائحه لا سيما ابن الخياط وملك بعده ابنه شمس الملوك وقام بتدبير الأمر بني يديه الحاجب يوسف بن فيروز شحنة دمشق وهو حاجب أبيه واعتمد عليه وابتدأ أمره بالرفق بالرعية والإحسان إليهم فكثر الدعاء له والقصاد عليه.
في هذه السنة ملك شمس الملوك إسماعيل صاحب دمشق حصن اللبوة حصن راس. وسبب ذلك: أنهما كانا لأبيه تاج الملوك وفي كل واحد منهما مستحفظ يحفظه فلما ملك شمس الملوك بلغه أن أخاه شمس الدولة محمدًا صاحب بعلبك قد راسلهما واستمالهما إليه فسلما الحصنين إليه وجعل فيهما من الجند ما يكفيهما فلم يظهر بذلك أثر بل راسل أخاه بلطف يقبح هذه الحال ويطلب أن يعيدهما إليه فلم يفعل فأغضى على ذلك وتجهز من غير أن يعلم أحدًا. وسار هو وعسكره آخر ذي القعدة فطلب جهة الشمال ثم عاد مغربًا فلم يشعر من بحصن اللبوة إلا وقد نزل عليهم وزحف لوقته فلم يتمكنوا من نصب منجنيق ولا غيره فطلبوا الأمان فبذله لهم وتسلم الحصن من يومه وسار من آخر النهار إلى حصن راس فبغتهم وجرى الأمر فيه على تلك القضية وتسلمه وجعل فيهما من يحفظهما. ثم رحل إلى بعلبك وحصرها وفيها أخوه شمس الدولة محمد وقد استعد وجمع في الحصن ما يحتاج إليه من رجال وذخائر فحصرهم شمس الملوك وزحف في الفارس والراجل وقاتله أهل البلد على السور ثم زحف عدة مرات فملك البلد بعد قتال شديد وقتلى كثيرة وبقي الحصن فقاتله وفيه أخوه ونصب المجانيق ولازم القتال فلما رأى أخوه شمس الدولة شدة الأمر أرسل يبذل الطاعة ويسأل أن يقر على ما بيده وجعله أبوه باسمه فأجابه إلى مطلوبه وأقر عليه بعلبك وأعمالها وتحالفوا وعاد شمس الملوك إلى دمشق وقد استقامت له الأمور. في هذه السنة في رمضان كانت الحرب بين الملك طغرل وبين أخيه الملك داود بن محمود وكان سببها: أن السلطان سنجر أجلس الملك طغرل في السلطنة كما ذكرناه وعاد إلى خراسان لأنه بلغه أن صاحب ما وراء النهر أحمد خان قد عصى عليه فبادر إلى العود لتلافي ذلك الخرق فلما عاد إلى خراسان عصى الملك داود على عمه طغرل وخالفه وجمع العساكر بأذربيجان وبلاد كنجة وسار إلى همذان فنزل مستهل رمضان عند قرية يقال لها وهان بقرب همذان. وخرج إليه طغرل وعبأ كل واحد منهما أصحابه ميمنة وميسرة وكان على ميمنة السلطان طغرل ابن برسق وعلى ميسرته قزل وعلى مقدمته قراسنقر وكان على ميمنة داود يرنقش الزكوي ولم يقاتل فلما رأى التركمان ذلك نهبوا خيمه وبركه جميعه ووقع الخلف في عسكر داود فلما رأى أتابكه آقسنقر الأحمديلي ذلك ولى هربًا وتبعه الناس في الهزيمة وقبض طغرل على يرنقش الزكوي وعلى جماعة من الأمراء. وأما الملك داود فإنه لما انهزم بقي متحيزًا إلى أوائل ذي القعدة فقدم بغداد ومعه أتابكه آقسنقر الأحمديلي فأكرمه الخليفة وأنزله بدار السلطان وكان الملك مسعود بكنجة فلما سمع بانهزام الملك داود توجه نحو بغداد على ما نذكره إن شاء الله تعالى. في هذه السنة قبض المسترشد بالله على وزيره شرف الدين علي بن طراد الزينبي واستوزر أنوشروان بن خالد بعد أن امتنع وسأل الإقالة. و في هذه السنة قتل أحمد بن حامد بن محمد أبو نصر مستوفي السلطان محمود الملقب بالعزيز بقلعة تكريت وقد تقدم سبب ذلك سنة خمس وعشرين. وفي المحرم منها قتل محمد بن محمد بن الحسين أبو الحسين بن أبي يعلى بن الفراء الحنبلي مولده في شعبان سنة إحدى وخمسين وأربعمائة وسمع الحديث من الخطيب أبي بكر وابن الحسين بن المهتدي وغيرهما وتفقه قتله أصحابه غيلة وأخذوا ماله. وفي جمادى الأولى توفي أحمد بن عبيد الله بن كادش أبو العز العكبري وكان محدثًا مكثرًا. وتوفي فيها أبو الفضل عبد الله بن المظفر بن رئيس الرؤساء وكان أديبًا وله شعر حسن فمنه ما كتبه إلى جلال الدين بن صدقة الوزير: أمولانا جلال الدين يا من أذكره بخدمتي القديمة ألم تك قد عزمت على اصطناعي فماذا صدقة عن تلك العزيمة
في هذه السنة في صفر ملك شمس الملوك صاحب دمشق حصن بانياس من الفرنج. وسبب ذلك: أن الفرنج استضعفوه وطمعوا فيه وعزموا على نقض الهدنة التي بينهم فتعرضوا إلى أموال جماعة من تجار دمشق بمدينة بيروت وأخذوها فشكا التجار إلى شمس الملوك فراسل في إعادة ما أخذوه وكرر القول فيه فلم يردوا شيئًا فحملته الأنفة من هذه الحالة والغيظ على أن جمع عسكره وتأهب ولا يعلم أحد أين يريد. ثم سار وسبق خبره أواخر المحرم من هذه السنة ونزل على بانياس أول صفر وقاتلها لساعته وزحف إليها زحفًا متتابعًا وكانوا غير متأهبين وليس فيها من المقاتلة من يقوم بها وقرب من سور المدينة وترجل بنفسه وتبعه الناس من الفارس والراجل ووصلوا إلى السور فنقبوه ودخلوا البلد عنوة والتجأ من كان من جند الفرنج إلى الحصن وتحصنوا به فقتل من البلد كثير من الفرنج وأسر كثير ونهبت الأموال وقاتل القلعة قتالًا شديدًا ليلًا ونهارًا فملكها رابع صفر بالأمان وعاد إلى دمشق فوصلها سادسه. وأما الفرنج فإنهم لما سمعوا نزوله على بانياس شرعوا يجمعون عسكرًا يسيرون به إليه فأتاهم خبر فتحها فبطل ما كانوا فيه. في هذه السنة في صفر سار ملك الفرنج صاحب البيت المقدس في خيالته ورجالته إلى أطراف أعمال حلب فتوجه إليه الأمير أسوار النائب بحلب في من عنده من العسكر وانضاف إليه كثير من التركمان فاقتتلوا عند قنسرين فقتل من الطائفتين جماعة كثيرة وانهزم المسلمون إلى حلب وتردد ملك الفرنج في أعمال حلب فعاد أسوار وخرج إليه فيمن معه من العسكر فوقع على طائفة منهم فأوقع بهم وأكثر القتل فيهم والأسر فعاد من سلم منهزمًا إلى بلادهم وانجبر ذلك المصاب بهذا الظفر ودخل أسوار حلب ومعه الأسرى ورؤوس القتلى وكان يومًا مشهودًا. ثم إن طائفة من الفرنج من الرها قصدوا أعمال حلب للغارة عليها فسمع بهم أسوار فخرج إليهم هو والأمير حسان البعلبكي فأوقعوا بهم وقتلوهم عن آخرهم في بلد الشمال وأسروا من لم يقتل ورجعوا إلى حلب سالمين.
قد تقدم ذكر انهزام السلطان مسعود من عمه السلطان سنجر وعوده إلى كنجة وولاية الملك طغرل السلطنة وأنه تحارب هو والملك داود ابن أخيه محمود وانهزام داود ودخوله بغداد فلما بلغ السلطان مسعودًا انهزام داود وقصده بغداد سار هو إلى بغداد أيضًا فلما قاربها لقيه داود وترجل له وخدمه ودخلا بغداد. ونزل مسعود بدار السلطنة في صفر من هذه السنة وخاطب في الخطبة له فأجيب إلى ذلك وخطب له ولداود بعده وخلع عليهما ودخلا إلى الخليفة فأكرمهما ووقع الاتفاق على مسير مسعود وداود إلى أذربيجان وأن يرسل الخليفة معهما عسكرًا فساروا فلما وصلوا إلى مراغة حمل آقسنقر الأحمديلي مالًا كثيرًا وإقامة عظيمة وملك مسعود سائر بلاد أذربيجان وانهزم من بها من الأمراء مثل آقسنقر وغيره من بين يديه وتحصن منه كثير منهم بمدينة أردبيل فقصدهم وحصرهم بها وقتل منهم مقتلة عظيمة وانهزم الباقون. ثم سار بعد ذلك إلى همذان لمحاربة أخيه الملك طغرل فلما سمع طغرل بقربه برز إلى لقائه فاقتتلوا إلى الظهر ثم انهزم طغرل وقصد الري واستولى السلطان مسعود على همذان في شعبان ولما استقر مسعود بهمذان قُتل آقسنقر الأحمديلي قتله الباطنية فقيل إن السلطان مسعودًا وضع عليه من قتله. ثم إن طغرل لما بلغ قم عاد إلى أصبهان ودخلها وأراد التحصن بها فسار إليه أخوه مسعود ليحاصره بها فرأى طغرل أن أهل أصبهان لا يطاوعونه على الحصار فرحل عنهم إلى بلاد فارس واستولى مسعود على أصبهان وفرح أهلها به وسار من أصبهان نحو فاسر يقتص أثر أخيه طغرل فوصل إلى موضع بقرب البيضاء فاستأمن إليه أمير من أمراء أخيه معه أربعمائة فارس فأمنه فخاف طغرل من عسكره أن ينحازوا إلى أخيه فانهزم من بين يديه وقصد الري في رمضان وقتل وزيره أبو القاسم الأنساباذي في الطريق في شوال قتله غلمان الأمير شيركير الذي سعى في قتله كما تقدم ذكره. وسار السلطان مسعود يتبعه فلحقه بموضع يقال له ذكراور فوقع بينهما المصاف هناك فلما اشتبكت الحرب انهزم الملك طغرل فوقع عسكره في أرض قد نضب عنها الماء وهي وحل فأسر منهم جماعة من الأمراء منهم: الحاجب تنكر وابن بغرا فأطلقهم السلطان مسعود ولم يقتل في هذا المصاف إلا نفر يسير ورجع السلطان مسعود إلى همذان.
في هذه السنة حصر المسترشد بالله مدينة الموصل في العشرين من شهر رمضان وسبب ذلك ما تقدم من قصد الشهيد زنكي بغداد على ما ذكرناه قبل. فلما كان الآن قصد جماعة من واشتغل السلاطين السلجوقية بالخلف الواقع بينهم فأرسل الخليفة الشيخ بهاء الدين أبا الفتوح الأسفراييني الواعظ إلى عماد الدين زنكي برسالة فيها خشونة وزادها أبو الفتوح زيادة ثقة بقوة الخليفة وناموس الخلافة فقبض عليه عماد الدين زنكي وأهانه ولقيه بما يكره فأرسل المسترشد بالله إلى السلطان مسعود يعرفه الحال الذي جرى من زنكي ويعلمه أنه على قصد الموصل وحصرها وتمادت الأيام إلى شعبان فسار عن بغداد في النصف منه في ثلاثين ألف مقاتل. فلما قارب الموصل فارقها أتابك زنكي في بعض عسكره وترك الباقي بها مع نائبه نصير الدين جقر دزدارها والحاكم في دولته وأمرهم بحفظها ونازلها الخليفة وقاتلها وضيق على من بها وأما عماد الدين فإنه سار إلى سنجار وكان يركب كل ليلة ويقطع الميرة عن العسكر ومتى ظفر بأحد من العسكر أخذه ونكل به. وضاقت الأمور بالعسكر أيضًا وتواطأ جماعة من الجصاصين بالموصل على تسليم البلد فسعي بهم فأخذوا وصلبوا. وبقي الحصار على الموصل نحو ثلاثة أشهر ولم يظفر منها بشيء ولا بلغه عمن بها وهن ولا قلة ميرة وقوت فرحل عنها عائدًا إلى بغداد فقيل إن نظر الخادم وصل إليه من عسكر السلطان وأبلغه عن السلطان مسعود ما أوجب مسيره وعوده إلى بغداد وقيل بل بلغه أن السلطان مسعودًا عزم على قصد العراق فعاد بالجملة وأنه رحل عنها منحدرًا في شبارة في دجلة فوصل إلى بغداد يوم عرفة.
و في هذه السنة أيضًا في شوال ملك شمس الملوك إسماعيل بن تاج الملوك صاحب دمشق مدينة حماة وقلعتها وهي لأتابك زنكي بن آقسنقر أخذها من تاج الملوك كما ذكرناه. ولما ملك شمس الملوك قلعة بانياس أقام بدمشق إلى شهر رمضان من هذه السنة وسار منها إلى حماة في العشر الأخير منه. وسبب طمعه أنه بلغه أن المسترشد بالله يريد أن يحصر الموصل فطمع وكان الوالي بحماة قد سمع الخبر فتحصن واستكثر من الرجال والذخائر ولم يبق أحد من أصحاب شمس الملوك إلا وأشار عليه بترك قصدها لقوة صاحبها فلم يسمع منهم وسار إليها وحصر المدينة وقاتل من بها يوم العيد وزحف إليها من وقته فتحصنوا منه وقاتلوه فعاد عنهم ذلك اليوم. فلما كان الغد بكر إليهم وزحف إلى البلد من جوانبه فملكه قهرًا وعنوة وطلب من به الأمان فأمنهم وحصر القلعة ولم تكن في الحصانة والعلو على ما هي عليه اليوم فإن تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين قطع جبلها وعملها هكذا في سنين كثيرة فلما حصرها عجز الوالي بها عن حفظها فسلمها إليه فاستولى عليها وعلى ما بها من ذخائر وسلاح وغير ذلك وسار منها إلى قلعة شيزر وبها صاحبها من بني منقذ فحصرها ونهب بلدها فراسله صاحبها وصانعه بمال حمله إليه فعاد عنه إلى دمشق فوصل إليها في ذي القعدة من السنة المذكورة.
و في هذه السنة عبر إلى الشام جمع كثير من التركمان من بلاد الجزيرة وأغاروا على بلاد طرابلس وغنموا وقتلوا كثيرًا فخرج القمص صاحب طرابلس في جموعه فانزاح التركمان من بين يديه فتبعهم فعادوا إليه وقاتلوه فهزموه وأكثروا القتل في عسكره ومضى هو ومن سلم معه إلى قلعة بعرين فتحصنوا فيها وامتنعوا على التركمان فحصرهم التركمان فيها. فلما طال الحصار عليهم نزل صاحب طرابلس ومعه عشرون فارسًا من أعيان أصحابه سرًا فنجوا وساروا إلى طرابلس وترك الباقين في بعرين يحفظونها فلما وصل إلى طرابلس كاتب جميع الفرنج فاجتمع عنده منهم خلق كثير وتوجه بهم نحو التركمان ليرحلهم عن بعرين فلما سمع التركمان بذلك قصدوهم والتقوهم وقتل بينهم خلق كثير وأشرف الفرنج على الهزيمة فحملوا نفوسهم ورجعوا
|